بساط الريح
في صباح يوم مشمس جميل استيقظ معين مفعم بالنشاط، يشغله هذا الحدث
العظيم، استعد، لبس، ثم وقف أمام المرآة، ينظر لنفسه، هل يستحق فعلا أن يشهد هذا
التكريم؟ هو كان يطلب شيئا في السابق يغير من حاله، كان يريد حدثا يبعث فيه الهمة،
توقف عن التفكير وخرج مسرعا من بيته نحو المرجة الخضراء، حيث الموعد في تمام
العاشرة صباحا، ظن أنه أول الواصلين، لكنه تفاجأ بالحشد العظيم الذي سبقه، تدافع
الجميع، ويأمل كل منهم أن يكون أول الصاعدين، وخلال دقائق معدودة كانت الحشود
المتدافعة في وسط المرجة.
بدا المنظر مهيبا من بعيد، كانت تراودهم الشكوك حول صدق الإعلان الذي
تردد على أسماعهم منذ أيام.
بدأ الشك يتلاشى حينما وقعت أنظارهم على هذا البساط الضخم الماثل
أمامهم، هو بساط الريح لا شك.
قبل أسبوعين تم الإعلان عن اكتشاف بساط الريح مع تنويه أنهم سيقومون
بتنظيم رحلة مجانية حول العالم لمن سيقع عليهم الاختيار، وأن على الجميع التواجد
في الموعد والمكان المحددين ليكونوا ضمن شريحة المرشحين.
في تمام العاشرة أطل عليهم المسؤول عن التنظيم وأشار للجميع أن
يصطفوا بنظام وإلا تأجلت الرحلة.
وأخبرهم أنه سينتقي منهم عشوائيا، فانصاع الحشد واصطفوا.
كم هو محظوظ من سيقع عليه الاختيار.
بدأ المسؤول بالاختيار، وقد تقصد أن يكونوا متنوعين من كل الفئات: أطفال
وشباب وشيوخ، رجال ونساء، أغنياء وفقراء، فهذا إرث تاريخي وعلى جميع الفئات
المشاركة فيه بما لا يزيد عن خمسين شخصا.
وكان على كل من يقع عليه الاختيار التقدم للأمام، قبل أن يقوم
المساعد بوضعهم في المكان المناسب على البساط وجاء اسم معين في وسط المختارين،
أخيرا، كانت الفرحة لا تسعه، ركض باتجاه البساط، وتم وضعه في الدائرة المتطرفة قرب
الحافة، وكان سعيدا لأنه سيرى كل شيء بشكل أوضح، بعد فترة وجيزة كان المسؤول قد أتم المهمة،
وكل من لم يكن ضمن الصاعدين أصيب بحسرة شديدة، لكن عزاءهم كان أنهم سيشهدون هذا
الحدث التاريخي، يكفي أنهم قد تمكنوا من رؤية ما ظنوه في السابق أسطورة تحكى لهم
في الروايات.
وبالفعل صعدوا وأخذ كل مكانه تحت نظر المراقبين من الجمهور الحاشد،
وضع الأطفال في الداخل في الحلقة الأولى مع أمهاتهم، ثم الشيوخ من
الرجال والنساء في الحلقة الأوسط، ثم الشباب في أوسع حلقة لأنهم الأقوى على تحمل
ضغط الهواء.
وكان العدد محدودا ليتاح للجميع رؤية ما يحلق فوقه البساط،
ولكنهم لم يفصلوا إلا حسب الطبقة العمرية، وليس حسب الطبقة
الاجتماعية، وكان ضمن الطبقة المرفهة أختان صعدتا وصنفتا حسب الفئة العمرية
الكبيرة أي جلسوا في الحلقة الوسطى.
وكان أنهما انزعجتا لخلطهما مع الطبقات الاجتماعية الأخرى وتململتا، حاولتا
الاعتراض، ولكن المسؤول أجابهما أن ما سيرونه خلال الرحلة كفيل أن ينسيهما هذا
الفارق وهي فرصة يتساوى بها الجميع، وأخبرهما أن بإمكانهما النزول واختيار غيرهما،
فاضطرتا للسكوت على مضض.
وقف المسؤول ليؤكد أن هذه الرحلة منفردة وقيمة وأن هذه البساط
سيوضع في المتحف بعد العودة وأن على الجميع الاستفادة والتمتع أيضا قدر المستطاع،
ونصحهم أن يقتربوا من بعضهم حتى لا يشعروا بالبرد الشديد ثم وزعوا عليهم سترات
خاصة لتحمل برودة الجو في الأعلى.
كان الجميع في غاية السعادة لهذه الفرصة، إلا الأختين، تكرر
انزعاجهما من توزيع نفس السترة للجميع، وفضلتا التحدث عن ذلك بينهما حتى لا
ينزلهما المسؤول.
ثم سكت الجميع عندما بدأ المسؤول بتحريك مقدمة البساط بشكل
عامودي وبحركة سريعة، وهو ما وجدوه مع البساط مكتوبا على ورقة بداخلها بيان كيفية
ارتفاعه وهبوطه والتحكم بحركته، ثم شعروا جميعا ببدأ ارتفاع البساط تدريجيا.
كان التعبير الوحيد الذي ظهر على وجوههم هو الدهشة، كانوا يتلفتون حولهم
وهم يبتعدون تدريجيا عن الأرض، بدأت الأشياء تصغر كلما ارتفع البساط، البيوت
والحدائق والشوارع.
إلى أن اختفت معالم مدينتهم، كان المقرر أن يزوروا بعض الآثار من
الحضارات القديمة، وبعض المدن المشهورة، والأماكن الطبيعية الخلابة.
حينما كانوا يمرون على أمور تستحق المشاهدة ينبههم المسؤول للنظر
والاستماع لشرح المرشد.
أما الأطفال فكانت الأمهات تحاولن الشرح لهم، والشباب اعتبروها لحظات
عابرة من المتعة إلا بعضهم، أحدهم كان معه قلم وورق يدون عليه الملاحظات وآخر معه
كاميرا ليلقط أجمل اللقطات ليريها لأقرانه عند العودة، وهناك من حمل دفتر رسم
ليشخص ما مر أمامه، واحد فقط اختلفت تعبيراته، كان صامتا وهادئا ويظهر عليه التفكر
والتدبر وهو معين.
وأما فئة كبار العمر، فكانت الأختان عادتا لحركاتهما، تنتقدان هذا
وذاك، لم تتجاوزا أي أمر دون عمل بلبلة، هذا ماذا يلبس؟ وهذا كيف يجلس؟ وحتى خيوط
البساط العتيقة لم تسلما من نقدهما، وتجرأت إحداهما لتذكر كيف عليهم تنظيف البساط
العتيق ليعود له بريقه ولمعانه، يا الله كم أنهما مزعجتان!! هذا ما كان يجول في
بال المحيطين ممن لم يتجرأ على النطق حتى لا يتحمل سلاطة لسانهما.
مر على بداية الرحلة يومان وعندما يحين وقت النوم يتوقف المسؤول
ليعلن أنهم سيتوقفون عن الحركة للمبيت، ويأخذ الجميع أغطية تحميهم من البرد.
خلالها خرج صوت اعتادوا عليه جميعا يقول:
"أيها المسؤول هذا غطاء بسيط.. لا يليق بمكانتي، لقد اعتدت على الفراش
الوثير، ألا تعلم من أنا؟؟ أعطني غير هذا الغطاء "
وما كان من المسؤول كلما سمع صوت إحدى الأختين غير أن يسد أذنه ولا
يعيرهما الاهتمام إلى أن تقنعا بأن لا جدوى من كثرة تطلبهما.
بدأ المحيطون بالأختين المتباهيتين بالامتعاض، لم يسنح لهم أن يسمعوا
المرشد الذي كان يشرح عن المناطق التي يمرون بها، وعلموا لاحقا أنهم اجتازوا برج
إيفل في باريس وبرج بيزا المائل في إيطاليا والمناظر الطبيعية الخلابة في أوروبا
كلما التفتوا لينظروا ويسمعوا تبدأ الأختان بعمل بلبلة، والبعض منهم بدا عليه
الإحراج لبساطة لباسه أمامهما عند كل نظرة ازدراء تطلقها إحدى الأختين، بدؤوا
بتغطية لباسهم وحاولوا كسب ودهما، إلا معين لم يشد انتباهه شيئا من كل الأصوات،
إلا ما كان يرى، كان ينظر ويتفكر في خلق الله، سبحانك ما خلقت هذا باطلا، وكلما
رأى مشهدا كان يربطه في الأحداث التي تعلمها ويتذكر الأحداث وينظر هنا حصل كذا
وكذا، وكان يستفيد من شرح المرشد ليتذكر بعض ما نسي.
لاحقا في الأيام التالية مروا على عجائب الدنيا السبع القديمة في مصر
وبابل واليونان وتركيا
الهرم الأكبر ومنارة الاسكندرية في مصر والحدائق المعلقة في بابل
وهيكل أرتميس وضريح موسولوس في تركيا وتمثال زيوس ورودس في اليونان، وكان
المرشد قد تحدث عن تاريخ كل منهم..
وكلما عبروا فوق
معلم طبيعي شرح عنه، البحيرات السبع، جبال الهمالايا، جبال الألب..
وعبروا فوق سور الصين العظيم، ونال نصيبا من الشرح أيضا
وكانت فئة الشباب ما زالت تستمتع بلا إدراك لقيمة كلما مروا عليه إلا
الشاب معين المتفكر الذي سمع وحفظ كل شيء.
وكانت الأمهات تحاولن الشرح لأبنائهن وهم مع ذلك يطعمونهم ويسقونهم
ويتحملن صراخهم خلال ذلك، ففوتن كثيرا من الشرح، وهم يعلمون أبناءهم قيمة الرحلة.
وأما فئة كبار العمر أدرك العديد منهم أخيرا أنهم لن يفلحوا إلا
بإهمالهم الأختين وعدم الاستماع لشكواهما وانتقاداتهما، فطلبوا من المرشد أن يستخدم
سماعة بصوت عال ليطغى على صوتيهما.
التف حول الأختين بعض ضعاف النفس وأمضوا الرحلة وهم في نفاق، والباقي
تقدموا للأمام قليلا ليستمعوا؛ فأدركوا نصف الرحلة.
بعد عشرة أيام وقبيل انتهاء الرحلة شكر المسؤول والمساعد والمرشد
الجميع، قالوا أن الرحلة بلغت نهايتها وأنهم سيعودون الآن خلال يوم وليلة سيكونون
في الديار، جفل الجميع لهذا الخبر، حاولوا تذكر الأيام العشرة كانت سريعة جدا لم
يشعروا بها، كيف انتهت فجأة؟؟ إلا معين كان مرتاحا لأنه لم يدع شيئا يفوته أبدا،
كل الرحلة كانت في ذاكرته.
وبالفعل بعد يوم وليلة، حط بساط الريح في وسط المرجة الخضراء، وكانت
الحشود في استقبالهم، بدأ الركاب في النزول، ووقفوا جميعا أمام البساط، حيا
المسؤول الجميع، وأعلن أن من استطاع من الركاب أن يقص هذه الرحلة للحشد بالتفصيل
سيستلم أكبر جائزة ويأخذ وساما شرفيا، وسيأخذ البقية هدايا على قدر مساهمتهم
بإيصال المعلومات.
واصطف الجميع بالترتيب حسب معلوماتهم، فكان الشاب معين المتفكر هو
الوحيد الذي استطاع وصف الرحلة بكاملها، وصفا دقيقا، وأما كبار السن فبعضهم استطاع
وصف نصف الرحلة، وأما الأختان فكان ترتيبهما في آخر الصفوف وقد أصابهما الخزي أمام
الحشود من مرتبتهما البعيدة وكان معهما المنافقون يقفون معهما بعتب، لأنهم أضاعوا
الرحلة ينافقون لكسب رضاهما.
تسلم معين الجائزة وهي منحة مالية كبيرة، مع درع تقديرا له، ثم
البقية استلموا على قدر معلوماتهم، وأما من لم يصف شيئا فقد تقرر تجريدهم من
مزاياهم الاجتماعية، لأنهم حرموا آخرين من هذه القيمة ولم يستفيدوا منها.
تقدمت الأختان على أمل الحصول على شيء، ولكن بدل الهدية اقتادوهما
إلى حجر اجتماعي، لأنهما صنفتا كمشاغبتين منعتا مسير الرحلة بشكل حضاري.
وأما معين فكانت جائزته الحقيقية هي المشاركة بحد ذاتها، فقرر أن
يعيد صياغة حياته لأن كل لحظة في هذه الحياة هي حدث وهو تكريم، فهذه الحياة هي
بساط ريح أكبر وأعظم، ولن يفرط في وقته عليها، ليستلم جائزته الكبرى في الآخرة وهو
الوسام الذي يستحقه.
كانت هذه الرحلة البداية عند البعض وكانت نهاية آخرين لم
يعرفوا قيمتها ويقدروها حقا، كما هي حياتنا على هذه الأرض قصيرة فلا ننسى وطويلة
لنعمل ونجد.